السينما بديلًا ثقافيًا في تغبالت

قراءة تحليلية لفيلم

الكلمة5 سبتمبر 2023آخر تحديث :
السينما بديلًا ثقافيًا في تغبالت
علي الغازي

على سبيل التمهيد: القراءة البيانية لعنوان الفيلم

تم عرض فيلم أمازيغي سينمائي مساء يوم الجمعة بدار الشباب جماعة تغالبت، تحت عنوان “أَكَّالِينُو إِيْدَامَنْ إِنُو”، من إنتاج مجموعة إثران الكوميديا-تغبالت. لسبب ما أول شيء يمكن نبدأ به، هو تقديم خدمة للقارئ، وذلك بتفكيك طلاسم العنوان الأمازيغي المبين.

يمكن قراءة هذا العنوان -أَكَّالِينُو إِيْدَامَنْ إِنُو- باللسان العربي “أرضي دمي” ولقراء آخرين “أرضي هي دمي، أو أرضي في دمي”، ويجوز أيضًا على وجه ما آخر “دمي هي أرضي، أو دمي في أرض”. تأتي هذه القراءات المتعددة للعنوان من القوة البيانية التي بنيَ بها العنوان باللغة الأمازيغية، وهذا أول علامة بيانية وقدرة اللغة الأمازيغية على البيان والتبيين، أيضا علامة امتياز يكتسيها العمل السينمائي وطاقمه، وإلَّا فكيف تأتى لهم وضع عنوان بذلك الإيجاز، دون حرف جر، بل دون حرف، العنوان جاء جملة اسمية يتكون من كلمتين، هذا ظاهريا، ولكنه ليس عنوانا ساذجًا بتلك البساطة، شخصيًا، يخيّل لي أنه عنوان، كيف أقول يميل الى المجاز، ويحتمل قراءات نَحْوِيّة متعددة، أقلها، أنه على الرغْم من كونه مبتدأً وخبرا، فهو يضمر إذا قرأناه من زاوية أخرى، حروف وأسماء محذوفة، فيجوز قراءته بإضمار حرف الجر، كما يجوز أيضا إضمار ضمير الرفع. ولكن صيغته الموجزة البيانية أقوى، بالمناسبة لا يمكن تَرْجَمَة البيان الأمازيغي في هذه الحالة، لا يمكن أن نقول “أرضيي دمي” التي هي التَّرْجَمَة الحرفة للفظ والمعنى الأمازيغي، ولكن، يمكن أن نترجمه الى “أرضي هي دمي” هذا هو المعنى الذي يحويه اللفظ الأمازيغي، البياني، بإيجازه، فهو يعبر عن معناه دون ضمير الرفع ودون حرف جر.

إذا اتفق لك ذلك، نصل الى نتيجة مؤداها، أن القراءة الدلالية للعنوان، توحي الى أن الفيلم يدور بشكل مركزي حول قضية الأرض، الذي تعلو قيمته الى درجة مقاربته بالدم، والإنسان، أيُّ إنسان، لا يمكن أن يعيش بدون دَم، وعلى هذا، فدم الإنسان القروي هي أرضه. وقيمة الأرض هنا بقيمة الدَّم.

قبل الخوض في هذه التحفة السينمائية الأمازيغية العجيبة، لابد أن ننوِّه بالتنظيم الرائع الذي تكفلت به جمعية الواحة الخضراء، زد على ذلك الإعداد المسبق للمكان، شخصيًا، شعرت البارحة أنني أمام تنظيم كيف أقول تنظيم منسق، مرتب، مبهِر وربما هذا الأمر لا نصادفه إلّا في حفاوات كبيرة. عمومًا يحمد لهم ويشكرون عليه.

• السينما في تغبالت… البداية وإعادة البداية

لم أكن أتصور أن يهتم شباب تغالبت بمجال السينما، في ترتيب منطقي شخصي يجول في خاطري لفنون الثقافة، لنقل لأشكال الثقافة، كنت دائمًا ما أرتبهم على هذا النحو؛ القراءة أولا والكتابة، ثم المسرح، تليهم الرياضة، فالرسم، وأخيرًا السينما (الاهتمامات التي يمكن أن يكون لها حضور في المنطقة). إذن كيف للسينما أن تقفز كل هذه المراحل، لتغدو الشكل الأول، بعد كرة القدم، في المنطقة، هذا والأشكال الأخرى، باستثناء كرة القدم، منعدمة، أو تكاد، في الحقيقة لا أرى في المنطقة إلا نتفا للقراءة، حصة ضئيلة، أشخاص معدودون على رأس اليد الوحدة. وهم نفسهم من يمارسون الكتابة، لنقل كتابة الشذرات.

لسبب تاريخي، ولكيلا نغمط المبدعين حقهم، تجدر الإشارة إلى أن هذا الشكل من الثقافة، اقصد السينما، سواء في شكلها القصير أو الطويل، بدأه مجموعة من شباب تلاكلو خلال سنوات مضت، والكل يعرفهم، بمجرد أن تذكر اسم “تلا فيزيون” الذي كان شائعًا، خلال تلك المرحلة، في أرجاء المنطقة. فرغم مسارهم القصير، إلا أنهم تركوا أعمالا سينمائية- معدودة- خالدة، بالنسبة لنا، كان لهم التجربة الأولى، صفة البدايات الأولى، أول من بدأ هذا النوع. غير أن الذاكرة الإنسانية لا تعترف إلا بالاستمرارية. القوي هو القادر على البقاء والاستمرار. لذلك سقطوا من ذاكرة الناس بفعل رياح المنطقة العاتية التي تقلع كل شيء من جذوره وتنقله إلى أقاصي بعيدة تم ترميه كالمهملات، وبسبب شدة حرارة المنطقة التي تتلف كل شيء، بل وتذيب ما لا تذيبه المحاليل الكيماوية. فكيف بذاكرة إنسان هش. كيف تريد من إنسان لا يغذي ذاكرته بالقراءة أن يحتفظ بفترة قصيرة من مسار شباب شغوف، وفوق ذلك هم كيف أقوق بشر- دون أي إيحاء سلبي- لا يمكن أن تتسرب إليه أهمية السينما (لأسباب ليس مقامها هنا)، أهمية ما يقوم به هؤلاء الشباب، في ذلك الوقت، إلا بضعة أساتذة كانت لهم تجرِبة بسيطة في المدينة خلال ظرفية دراستهم الجامعية. ورغم امتلاكهم تلك الثقافة، المحدودة، لا أعرف هل خلفوا أية تعليقات على عمل المجموعة. (يجب ألا ننسى أن التعليق مهم بالنسبة للمبدع والفنان والكاتب ولعمله) أما الباقي، بقية الناس، فيعرفون السينما ككل الأشياء التي يراها دون أن يعرف دورها وأهميتها.

يؤسفني، وأنا الملام هنا، التقصير مني (أنا جزء من الذاكرة السابقة) أنني لا أذكر عناوين أعمال مجموعة شباب تلاكلو، مجموعة اختارت لنفسها اسم “تلافيزيزن” وهو بالمناسبة اسم يحمل دلالات قوية، وصيغ صياغة بلاغية مبهرة، وكأن تغالبت تملك بلاغة العناوين/ التسميات، اسم المجموعة هو اسم يجمع بين أمرين؛ تلا وهي الحروف الأولى لاسم دوار تلاكلو، يختصر اسم قبيلة تلاكلو في تلا ولذلك شاع النداء بين أبناء المنطقة ب “ووتلا”. أما فيزيون، فلها معنيان الأول هو التليفزيون، طبعا يريدون بها السينما، وإلا فالتلفزة ليست هي السينما. أما الثاني، وهو المعنى الذي لم تكن المجموعة تعرف أنها وقعت فيه كالمحظور، وهو الرؤية كترجمة لكلمة فرنسية الكل يعرفها. لكنهم، بلا شك، وبخطأ ساذج، يقصدون التلفزة، بالمعنى القريب للسينما مع بعدهما بعد السماء عن الأرض.

على الرغم مما قلنا، فلا يمكن التبخيس من عمل مجموعة “تلا فيزيون” يكفيها صفة السبق، صفة الرعيل الأول الذي بدأ الاهتمام بالسينما، خاصة الفيلم القصير منها. بل يشكرون، ونقدر تجربتهم، ولذلك نسبنا لهم هنا صفة البداية، حتى لا نغمط مجهوداتهم حقها، نخبرهم أنهم ما يزالون في الذاكرة، وهذا نوع من الاحتفاء بهم. للأسف، نحن (قلت نحن تجنبا لضميرِ “الأنا”، ثم كي لا أنسب الصفة لوحدي)، نحن أشباه القراء، الشيء الوحيد الذي نملكه، ونستطيع أن نوشح به الناس إنجازاتهم، كتقدير واعتراف بهم هو الكتابة، وهذه الكتابة اعتراف وتقدير لهم. ثم سنذكر أسماء المجموعة دون أن التشهير بهم (عبد الكريم، خالد، عبد العزيز، محمد، لحسن، عيسى…)

بعد هذه التجربة البهية التي لقت ترحيبًا، وتفاعلا من طرف أهل/ شباب المنطقة، وربما تشجيعا، هذه التجربة التي لم يكتب لها الذَّهاب بعيدًا، بسبب مشاغل الحياة وتقلباتها، التي فرقت الفِرْقَة، ورمت بكل عنصر من عناصرها في صحراء ما، جعلته يبحث عن المنفذ، يبحث –ربما- عن لقمة العيش باختلاف صور هذا البحث.

جاءت كإحياء وبعث للتجربة السينمائية، فِرْقَة جديدة، شغف جديد، وطموح ينظر إلى الأفق البعيد. طبعا ليس من نفس الدوار، ولكن ليس ببعيد عنه، جاره، ومجاوره. شباب مِنْ أيت مناد بكل ثقة وعزم وجدارة، رفعوا شعار التحدي أمام الواقع الثكل، وهشاشة التدبير السياسي في المنطقة، والكل يدرك هذا، العامي والمتعلم (ليس هناك شيء اسمه المثقف، عادة ما يستعمل هذا المصطلح استعمالًا عشوائيا أو عبثيا، استعمالًا غير واعي، لنقل استعمالًا عاميًا) والطالب والأستاذ (هذه هي الفئات الموجودة في المنطقة التي يمكن نعتها بالمثقفة كاستعمال قاصر للثقافة، استعمال خاص). الكل يدرك أن التدبير السياسي في المنطقة هش، وأعرج، يسير عكس التيار، وعكس التقدم والإصلاح، بل يركب رأسه كالمجنون (المجنون هنا بمعناه القدحي أي البلادة والبلاهة). ولكن لا أحد يحرك ساكنا، ولا أحد يقول رأيا، ولا أحد يفتح بابا للنقاش (ملاحظة اقصد هنا النقاش الجاد، والرأي الجاد، والنضال المعقلن الجاد الذي يخدم المنطقة وليس الموجه للأشخاص. ملاحظة؛ لا وجود للنقاش الجاد في المنطقة، كل انتقاد وإن هو انتقاد يدعو إلى البناء فهو انتقاد شخصي بالنسبة للمرسل إليه، لا غرابة في مناطق يتعشش فيها الجهل. لابن خلدون فصل في هذا).

هكذا تم إحياء نوع من أنواع الثقافة بالمنطقة، خطابا إبداعيا، قد يكون (يجب أن يكون) شرارة نحو التغيير، نحو طرح أفكار جديدة، نحو زرع ثقافة جديدة، بدل ثقافة البلاهة، وثقافة الصراعات، وثقافة الهجرة. قد يطمس ثقافة الاختلاف الهوياتي. خطاب قد (نأمل منه أن) يعيد القراءة (لم يكن لها حضور مسبق ربما) إلى الواجهة كطقس ثقافي، وركيزة نحو التقدم، وقد يجعل من التعليم الركيزة الأساس والعمود الفقري للنهوض بالمنطقة والبلاد عموما. يحق للقارئ أن يعلق ويقول لي: «إنك تحلم “، وهو ليس مخطئا، ولكن مشكلتنا أننا لا نملك أمالا، أحلاما. كل شيء، كل نجاح ما، كل حكاية ما، تبدأ بحلم.

قد يحقق خطاب السينما هذا، قفزة نوعية في المنطقة، على الأقل هذا ما ننتظر منه. تغييرا ما، ولو طفيف، انطلاقا من إيمان أن كل الفنون، وأشكال الثقافة، تهدف إلى إحداث تغيير في المحيط.

• الفيلم كخطاب سينمائي، تحليل العرض السينمائي

قَدّم مجموعة شباب من أيت مناد تحفة سينمائية بديعة، في فيلم معنون ب “أكالينو إدامن إنو”، عرضوا من خلاله مجموعة من القضايا المتعلقة بالواقع المعاش في المنطقة. بشكل أنيق.

أ. تيمات الفيلم:

بداية، كما قلنا، يعرض الفيلم، سلسلة من المشاهد، قدمت على شكل شذرات، الأمر أشبه بالكتابة بالقفز والوثب، مشاهد منفصلة ومتصلة في الآن نفسه، كل شذرة، أي كل مقطع (مشهد) يقدم قضية معينة منفصلة، ولكن الفيلم بمجمله، أي الشذرات هي وحدات ألفت وفق نسق محكم، بنية واحدة، انتهى في شكله النهائي على شكل فيلم. كلها تصب في واد واحد. وهو وضع المنطقة المزري وقضاياه العجيبة، يمكن إجمال أهم تيمات (موضوعات) الفيلم في الآتي؛ تيمة الصراع حول الأرض وهو التيمة الإطار كما يخبرنا عنوان الفيلم، وتيمة الهشاشة في التدبير السياسي، والرشوة، والشعوذة، والانحلال الأخلاقي، وفساد فئة معينة؛ السياسيين منهم والفقهاء المهوسون بالمال (الكل مهوس بالمال في الفيلم، المرشح الجماعي، المشعوذ، والفقيه…)
ب. العناصر التقنية الجمالية والإقناعية في الفيلم:
ب.1. التصوير بالقفز والوثب /الشذرات:
ذكرنا سابقا، عرضا، طريقة عرض/ تصوير الفيلم، الذي اتخذ من الشذرات/ المشاهد، كطريقة في التصوير/ العرض، أسلوبا فنيا تقنيا وجماليا، هذا الأسلوب نجده في شكل من أشكال الكتابة، تسمى بالكتابة بالقفز والوثب، نجده في الكتب القديمة، كتب الجاحظ مثلا، وحديثا في الرواية، نجده عند مونتين، وعبد الفتاح كيليطو، وعند عبد الكريم جويطي خاصة في المغاربة، وعند محمد الأشعري والكثير من الكتاب… وذلك بتقديم الخطاب شذريا، بحيث يقدم كل مشهد قضية، قد يظن المشاهد البسيط (المشاهد هنا قارئ ومؤول) أن لا علاقة بين المشاهد. والحق أنها متفقة متسقة في بنية موحدة.
ب.2. بلاغة الشخصيات الأسطورية والساخرة (تراجيديا):
اعتمد الفيلم على عنصر الشخصيات منها الأسطورية، ومنها الساخرة كتقنية جمالية وإقناعية. في بنيان البلاغة الجديدة التي تستوعب التخييلي والتداولي، يمتزج الجمالي والتخييلي، بل إن الجمالي قد يؤدي وظيفة إقناعية. بهذا الاعتبار، استطاع الفيلم، وبالأداء الخرافي، المتقن للشخصيات، أن ينفذ إلى المشاهد القارئ، كما استطاع من زاوية أخرى إيصال الأفكار، التي يحاجج ويدافع عنها الفيلم إلى صدر المتلقي، بل وإقناعه بها. على سبيل المثال، بالنسبة لي كقارئ، أدت شخصية المشعوذ، دورا عظيما، أسطوريا، في شهامته، وباعتباره الإله الذي يملك في يده أقدار الناس ومكاتبهم، والوحيد الذي يستطيع تحقيق المستحيل، وإبطال المنيع، بل من يملك مفتاح كل أقفال ومشاكل الناس. هذا إلى جانب الأداء الساخر الذي حاول المخرج، بتواطؤ مع كاتب النص، أن يلبسه للمشعوذ، يظهر هذا الأمر بجلاء من خلال العبارات الخرافية التي يقولها المشعوذ، ويطلب من اللاجئ إليه بأن يرددها، هي عبارات ساخرة، لا يقبلها عقل القارئ المشاهد، من قبيل “قول التسليم، قول باع، افعل كذا…) وقد تكررت هذه العبارات الساخرة، بالنسبة للشخصية، أو الإنسان الذي يقع في موقع الشخصية لا يدرك سفاهة المشعوذ وسخريته، بحكم الموقف وحاجته إلى شيء ما، يستطيع أن يفعل أي شيء آخر من أجل أن يجد ضالته، حلا، لمشكلته عند المشعوذ.

لقد قدمت شخصية المشعوذ دورا أسطوريا عجيبا، استطاعت أن تنفذ من خلاله إلى القارئ/ المشاهد، كما نفذت إلى شخوص الفيلم، وأثرت فيهم، وأقنعتها بأنه من يملك الحل لمشاكلهم، استطاعت الشخصية كل ذلك وغيره، بقدرتها العجيبة في التشخيص (فعلا وقولا).
إلى جانب المشعوذ، نستحضر شخصية أخرى، وهي شخصية الفلاح الساخر الذي ترسله عائلته إلى الحقول صباح مساء، بل هو الشخص الذي يقال له دائما قم بهذه المهمة الشاقة. وكلما نبتت الأرض مهمة، سخرة، شيء ما يجب أن ينجز، ولو مساعدة بسيطة، تعطى، بل تترك للفلاح العجيب، الذي ينجز الأمور بثقة واثقين، يفعل كل ذلك بامتعاض، وفي حالات بغضب، إلى درجة أنه ترك جملة ساخرة ومضحكة من خلال الفيلم، سنوردها هنا مترجمة (حمو، في الصباح اذهب إلى الحقول، في المساء إلى الحقول، أحضر السخرة، افعل هذا الشيء، حمو إلى البقال… كل شيء يقوم به حمو، وكأن حما هو الوحيد الذي استخلفه الله في/ على الأرض)

الحقيقة كل الحقيقة أن شخصيات الفيلم رسمت بشكل سريالي ميتافيزيقي، كما أنها تفاعلت، مع أدوارها، حتى تماهت معها، هذا التماهي مع الدور، أعطى الشخصية، وللدور، وللفيلم صفة الإتقان، والمهارة، كما خلف في القارئ المشاهد، صورة الأداء الخرافي للشخصيات، نهيكم عن السخرية اللطيفة والمحبوكة داخل الفيلم التي جسدتها الشخصيات، فعلا وقولا، بطريقة مبهرة، ولأننا في معرض الشخصيات الأسطورية الخرافية، لا بد من أن نسترجع شخصية الفقيه، الذي أبى أن يجانب الصواب والحق، وعزم على قول الحق، والعمل به، إلي باغتته الدنيا بأحد شياطينها، بفتنتها، إنه المال، الذي زلزل قلب الفقيه وإيمانه، المسكين، غلبت عليه إنسانيته، فأنكر ونهى عن الحق، وأمر بالمنكر. كل ذلك بغواية من المال. وهو زينة الدنيا والحياة.

ظننت سأكتفي بذكر شخصيتين فقط، فإذا بي، أجدني متأثرا بمعظمها، هذا لأدائها المتميز، وإلا، فكيف تحضرني بدوت استئذان شخصية شيخ القبيلة (أمغار). إلى جانب الحرس، الذي تم اختياره بعناية، بحيث ظهروا واقفين كالجدار، لا تحركه معركة ولا يلتفت لمرور امرأة، وهو تعبير عن حياء رجل المنطقة واحترامه للمرأة، الواحد منهم تراه وكأنه صخرة صلدة، والعجيب في ذلك كيف يجمعون بين الصلابة والقوة والجو الجهنمي للمنطقة وبين الحياء وتنظيم الرغبات والأهواء؟
عادة ما نستهين بالشخصيات الثانوية، أو التي لم يكن لها حيز كبير فالفيلم، إننا نظلمها، لأننا يجب أن ننظر إلى أفعالها وأقوالها، ومواقفها، في هذه الحالة استحضر شخصية الرجل المثقف، الذي جاء من المدينة، من أجل ربما، أن يقوم بدراسة، أو بتحر ما، حول الوضع السياسي، أو وضع صراع الناس من أجل الأرض، بداية صادف الشخص، الأجنبي، أجنبي بالنسبة إلى لغته المختلفة عن لغة الدوار، وعن لباسه الذي يدل على لباس شخص متعلم وجاء من المدينة، صادف الفلاح العجيب، صاحب اللسان الساخر، الذي حاول بإتقان يتحاور مع الأجنبي بلغة تجمع بين الأمازيغية والعربية، دون أن يحدث أي إخلال بين النحويين والتركيبين (طبعا هناك إخلال ولكن ليس هناك إخلال في الفصاحة)، كان يتكلم بلسانين بطريقة سلسة، مخلفا في المشاهد سخرية ساحرة وميتافيزيقيا. ثم التقى الأجنبي بالمرشح الذي حاول أن يقدم له رشوة من أجل أن يقلبا وجها وصفحا عن ذلك الدوار ويعود أدراجه، لكن الأجنبي فاجأ الراشي، فرفض الرشوة على الرغم من الزيادات التي عرضت عليه.

تحمل شخصية الغريب مجموعة من القيم المعاكسة حاولت أن ترسلها بشكل صريح بواسطة أفعالها وأقوالها إلى المتلقي، عدم قبول الرشوة باعتبارها فسادا أخلاقيا مدويا، يخلف ورآه مشاكل ومطبات اجتماعية وتنموية. ويغلق باب التنمية والإصلاح والتقدم.

هذا ما يتعلق بالشخصيات الذكور، يجب ألا نغفل دور الجنس اللطيف في الفيلم، دور الأنثى، هذا طالما، آمنت أن المرأة هي سبب دوران الأرض، فلها في الحياة دور كبير، إن أي شيء، عندما تضاف إليه لمسة أنثوية في مكانه المناسب، يكون ساحر، ناجحا، وعظيما. وأصلا،” كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه “والعهدة على محيي الدين ابن عربي. إن إضافة العنصر النسوي للفيلم، إضافة مهمة للسينما بالمنطقة، انطلاقا من قاعدة لغوية بلاغية، كل زيادة في المبنى هي زيادة في المعنى. وإلا، فلنتخيل كيف سيكون الفيلم لو جسد الرجل دور المرأة؟
لعبت المرأة في الفيلم دور المرأة التغبالتية، التي تتسم بالوقار والحشمة والحياء، النصوحة للرجل ومشورته، والمنبهة لمخاطر وآلات لا يحمد بعدها أية عاقبة كما لا ينفع أي ندم.

ب.3. الزي الأمازيغي.. جمال وهوية، وثقافة

إذا اتفق لك ما سبق، ما يتعلق بأهمية المرأة، فلنعطي قيصر ما لقيصر، أول شيء لفت انتباهي، خلال مشاهد العرض/ الفيلم هو زي المرأة (المرأة هنا كجنس يقابل الذكر وليس بالمعنى القرآني)، زي تقلدي أمازيغي خالص، وربما، لكونه زيا أمازيغيا متعددا ومتنوعا، يضم الزي السوسي، والدرعي، وزي جهة الراشيدية، والزي الأطلسي وزي صاغرو، والمكوني (نسبة إلى قلعة مكونة ونواحيها) وأزياء ثقافات أمازيغية أخرى لا أعرفها، أعطى للفيلم لوحة فسيفسائية ساحرة. وهو زي، محتشم، وأسطر على كلمة محتشم.

هذا على مستوى المرأة، أما الرجل، فقد قدمت الشخصيات، بتعددها الثقافي، على شكل طبقات ثقافية، هناك الإنسان القروي، وهو الحاضر بقوة، ولذلك، فزيه، زي تقلدي محض، جلباب، وعمامة، وفي حالات السلهام بني فوق الجلباب، وقد يوضع فوق الكتف دون أن يلبس، وهنا زي المرشح، وهو زي لا يختلف عن إحدى شخصيات المسرحية الهزلية الواقعية لجماعة تغبالت، لما رأيت شخصية المرشح في الفيلم حضرنا أحد مكونات الجماعة، لقد حدث التناسق دون وعي من المجموعة ودون نية مسبقة. هو تناسق من محض الصدفة. حداء أسود، وبدلة سوداء، وقميص لا أتذكر لونه، ثم قبعة. كالتي يلبسها الشعراء. وجيب يتسع لكثير من المال، عادة ما يستعمل كوسيلة لضبط الأمور، أو للتفاهم، أو ما يمكن نعته بالتواصل الجاد. أو كحل لأمور لا تقبل الاجتهاد، الأمور التي يكون فيها الفقيه طرفا.
هناك شيء آخر لا بد منه لا بد من أن ننوه به، وهو زي الخدم والحرس في مقابل زي السادة والقايد ومعاونيه، زي الحرس عبارة عن عباية طويلة، بلون واحد وموحد، مع حزام من وشاح يشدها في الوسط، أعلى الخصر. يدل على التبعية والولاء، ويدل على المهنية (الحراسة/ الأمن)، أما زي السادة، خاصة في شخصها القايد، فهو زي فخم، يعلو على الذين دونه.
ب.4. الحوار… كضرب من الحكي

أخذ الحوار في الفيلم حصة الأسد، إذ لا مشهد من مشاهد آمن من الحوار، لقد كان البوابة الأولى للإفصاح عن مكنونات الشخصيات وآرائها، وعن موقفها، كما كان مِنْبَرًا للمحاججة والدفاع عن المواقف والذود عنها، فضلا من كونه فسحة إخبارية بقصة الفيلم، خاصة ما يتعلق بصراع الشخصيات، وتعبير كل واحدة عن دورها، منها من يعبر عن الحزن، ومنه من يعبر عن غضبه، ومنه من يعبر عن سخريته التي يطلقها للحياة العجيبة كمقاومة، كما يطلقها للشخوص الآخرين كعناصر موجودة في حياته. لقد شكل الحوار العنصر الإخباري لقصة الفيلم، إنه ضرب من الحكي، لقد تم سرد قصة الفيلم مِن خلال حواراته، بالإضافة إلى العناصر السردية الأخرى.

ب.5. المكان.. من ذاكرة منسية الى إرث ثقافي

صُوِّرَت معظم مشاهد الفيلم وحواراته، في أمكنة تاريخية، وهي قصبات دوار أيت مناد، لهذه القصبات تاريخ مجيد وسحيق، كما تحمل ذاكرة وطقوسا وتفكير جيل مضى، هذا، فضلا عن كونها تمثل رمزا ثقافيا وإرثا لا ماديا ومعالم جميلة بديعة.
إن اختيار القصبات فضاء لأحداث الفيلم ليس سليما من التأويلات، من يدري، قد يكون الأمر دعوة من أجل الاهتمام بها، من خلال ترميمها، وإصلاحها، دعوة من أجل استغلالها كبعد سياحي يمكن أن تعود المنطقة بالنفع، ويمكن أن يكون مزارا للسياح، وليس ببعيد أن يكون حضورها في الفيلم، مناسبة وجسرا من أجل لفت الأنظار إليها، وفي أقل الحالات نوعا من الافتخار والاحتفاء بها.

على سبيل الختام: رهانات الفيلم
صفوة الكلام، وتأسيسا على العرض السينمائي، يمكن أن نبصم على الإنتاج (كمجموعة) علامة التميز، كما نوشح هذه التجربة السينمائية بطاقمها الإداري والتقني والفني ومواردها التشخيصية (الممثلون)، بأجل الأوسمة، ونقول لهم، لقد أبدعتم فأجدتم الإبداع، ولقد اخترتم وأحسنتم اختيار تيمات (موضوعات) الفيلم، وهي أشياء حاضرة بشكل ملموس، كانت بحاجة إلى قلم يكتب عنها، أو خطاب يصورها، وها قد نجحتم في تشخيصها ونقبها إلى القارئ المشاهد.
لقد نجح شباب المجموعة على إثبات فكرة مؤداها أن جماعة تغبالت فيها ما فيها من طاقات إبداعية، في شتى المجالات، في الرسم، والمسرح، ثم السينما، فضلا على المواهب الكروية التي تزخر بها المنطقة عموما، يكفي أنهم يحترفون في، على سبيل التمثيل لا الحصر، في دوري تازارين. نتمنى أن تجد هذه الطاقات بيئة من أجل صقل مواهبها، نتمنى من الجهات المسؤولة أن تلتفت إليها، في أقل الحالات إن تنشئ لها ملاعب عن قرب، مراكز ومركبات سوسيوثقافية، أو مركب للمسرح والسينما، ولما لا دار للثقافة. ما لم تحرك الجهات المسؤولة، عفوا ما لم تقم بأقل من واجبها، وهو إنشاء المركبات والمراكز المذكورة، فأني أخشى على شباب وفتيان المنطقة الضياع كما ضاعت أجيال، وقدمت أخرى نفسها وجبة دسمة للأسماك، والبقية بقيت في المنطقة تذروها الرياح، وتتلفها كما أتلفت الطبيعة والجبال وصيرتها صحراء قاحلة لا تنبت ولا تنتج، ولا تشفي من يحاول أن يتأقلم معها.
وأخيرا نتمنى لكم، للمجموعة أعني، كامل التوفيق والسداد في هذا الميدان الثقافي الذي يحتاج إلى كثير من الجد والصبر والإبداع وأسطر على كلمة الإبداع. كما أتمنى أن تلقى أصواتكم صدى ما.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل