أبرز الدكتور منير القادري، رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الاورومتوسطي لدراسة الإسلام، خلال مشاركته السبت ال6 من مارس الجاري، في الليلة الرقمية الثالثة والأربعين، التي نظمت من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، موضوع “أزمة الفراغ الروحي والحاجة إلى التربية الإحسانية”.
استهل القادري مداخلته بالحديث عن الروح، مبينا أن الانسان روح وجسد، وأنه كما للجسد احتياجاته ومستلزماته، فإن للروح تطلعاتها وتأثيرها الكامل على سير الجانب المادي في حياة الإنسان، واستطرد أنه حتى لو توفرت للإنسان كل الاحتياجات المادية سيظل يعيش الخواء والجوع الروحي، إذ لا استقرار للحياة إلا بالتوان بينهما.
وأكد على ضرورة اتصال الروح بما فوق المادة أي بالقوة المطلقة التي لا حد لها وإليها مرجع الأمور، مستشهدا بقوله تعالى في الآية 23 من سورة لقمان: (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ ۚ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
وأضاف أن الروح تحتاج إلى الطمأنينة والثقة والرضا وراحة الضمير والوجدان، بعكس الماديات التي لا توفر للإنسان السعادة والاطمئنان والاستقرار، وزاد أن نور الإيمان هو السبيل الأوحد للعلاج ومسايرة ما نحتاجه في هذا الزمن القاسي المشبع بالمادة والاستهلاك؛ مستشهدا في سبيل ذلك بمجموعة من الآيات من الذكر الحكيم، وأقوال المفكرين والباحثين، منها ما قالته الشاعرة العراقية نازك الملائكة المتخصصة في مقارنة الأديان، والأستاذة قيد حياتها في جامعة ويسكونسن-ماديسون بأمريكا : “كنت متشائمة، لأنني كنت ملحدة، وكنت أنظر إلى هذه الحياة التي نحياها نظرة تراجيدية، يعيش الإنسان فيها حياة تراجيدية، لكني عندما عدت إلى الإيمان والإسلام، وقرأت القرآن العظيم، والحديث النبويّ، عادت إليّ الحياة طلقة بهيجة، وعدت إليها متفائلة، وعرفت يقيناً أن هذه الحياة التي نحياها ليست إلا مَمَراً لدار أبدية، دار الخلود في الجنة للمحسنين، والنار للمسيئين” .
وأكد أن الملذات الحسية لا تخترق غشاء القلب، مذكرا بانتحار عدد كبير من المفكرين والأعلام ومنظري هذا العالم، رغم بلوغهم أغلى درجات الدخل والسمعة والشهرة، بسبب عدم معرفتهم بربهم وسر وجودهم.
ونبه الى أن الفراغ الروحي يشكل مرضا خطيرا أشد من الأمراض العضوية لتأثيره على الحياة الدنيوية والأخروية معا ، حيث تتحول معه الروح الى صحراء قاحلة، خارجة عن حقيقتها ومقصديتها وهدفها المنشود.
وأشار الدكتور منير القادري إلى أن “عدم الاكتراث بأهمية السياسة التربوية والأخلاقية الإسلامية المنفتحة داخل بيتونا، أسهم في تهيئة التربة الملائمة لنمو بذور الفراغ النفسي والعقائدي في مجتمعاتنا؛ من خلال اكتفاء الآباء بالتركيز على تعليم الأبناء الجانب العبادي الطقوسي المظهري فحسب، الأمر الذي ساعد مع مرور الوقت في خلق تصور فكري خاطئ عن الدين، يقوم على اعتباره مجرد عبادة مظهرية شكلية طقوسية خالية من أي جوهر أو مضمون روحي وأخلاقي” .
ولفت الى أن هيمنة الحياة المادية على كل ما هو معنوي وروحي أدى إلى خلل حضاري، وخلل في التوازن بين مطالب الروح والجسد، مما زج بالإنسانية كلها في حياة ملؤها ثقافة الاستهلاك والاغتراب واللاهوية ،ففقدت بذلك متطلبات الأمن الحضاري.
وأوضح رئيس مؤسسة الملتقى ان المقصود من استعراض مكامن الضعف والخلل في الحضارة المادية ليس هو رسم صورة سوداء عنها أو التشهير بأوضاع تلك المجتمعات، فهي حضارة تفرض هيمنتها على واقع الحياة بإنجازاتها العلمية والتكنولوجية، وأن من واجب مجتمعاتنا الالتحاق بها، مشيرا الى أن المطلوب هو التمييز والفرز بين نقاط القوة والضعف في هذه الحضارة المادية لندرك أهمية الجانب الروحي الذي يؤدي تجاهله الى القلق والاضطراب الاجتماعي وبالتالي ضنك العيش وشقاوة الحياة ، مستشهدا بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾[سورة طه الآية124] ،بينما التوازن والتكامل في تلبية احتياجات الإنسان في توجهاتها المادية والعقلية والروحية، يضمن للإنسان حياة طيبة سعيدة، مستدلا بقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[سورة النحل الآية97].
وأكد المتدخل أن الجمع بين المعرفة العقلية والعرفان القلبي يضمن للإنسان الحصانة والوقاية من كل زيغ وانحراف، وتشكيل بنية تحتية أخلاقية تصلح كأساس للبناء الاجتماعي المتماسك، فتكتمل بذلك أهم شروط الأمن الروحي الذي لا مناص منه لتحقيق الأمن الحضاري، وأن هذا ما يقوم عليه المنظور الصوفي الاحساني الذي يجمع بينهما في ترابط وتكامل.
وبين معنى “أن تكون صوفيا هو أن تصير إنساناً يَسْعَى فِي حياتِه بين الذّكر والفِكر، امتلأَ قلبُهُ حُبًا، وفاضَ رحمةً وجمالًا، إنسانًا يرى الجمال فِي أدقّ تفاصيلِ حياتِه، وان أنْ تكونَ صُوفيّاً مسلما محسنا معناهُ أنْ تعمُرَ الأرضَ بِفكرك، وتناجِي مولاك بذكرك “، وأضاف: ” أنْ تَكونَ صُوفيّاً معناهُ أنْ تَكونَ إنسانًا يُحاكِي أصلَ الفِطرة، يدأبُ فِي نفعِ البشريّة وإغاثة كُلّ مَلهوف، يجدُ فِي كُلّ إنْسانٍ جُزءَهُ الضّائِع، وشيئًا مِنْ شَتاتِه المَفْقُود، فتكتمِلُ بِكُلّ إنْسانٍ نَفْسُه، يجودُ بماءِ عينِه على كُلّ ظمآن، فهو الذي أخرجَ الدّنيا مِن قلبِه، وبسطها فِي كفّه، فما عادتْ تساوِي عِندَه إلّا كما تُساوِي حفنةُ الرمْل عِندَ أعرابيٍّ فِي صَحراء “.
واختتم مداخلته بالتذكير بأن التراث الصوفي الروحي المغربي غني بالكنوز التي تسر الناظرين وتحيي القلوب التي ماتت والتي ترمي لإحياء الرسالة المحمدية الخاتمة وتسير بالإنسان إلى مدارج ومنازل تلوى الأخرى حتى يبلغ المنتهى في بستان العارفين وجنة رب العالمين، مؤكدا على ضرورة إيجاد مدخل جديد للتنمية الأخلاقية يقوم على منح ثوابتنا القيمية والأخلاقية معنى واهتمامات جديدة بغية التخفيف من حدة وطأة التخلف الذي يجتاح حياة المسلم ، مشددا على ضرورة تفعيل هذه القيم الأخلاقية لديننا الحنيف في إطار التقوى ومكارم الأخلاق لدورها في صلاح وإصلاح الفرد والمجتمع وازدهارة.