يخرج المتتبع للعلاقات بين المشرق والمغرب بعديد من الملاحظات والأفكار، أغلبها إيجابي يصبّ في خانة تعزيز أواصر الأخوّة والتعاون والتواصل بين شعوب جناحَي العالَم العربي، في حين يشتمل بعضها الآخر على غير قليل من منسوب الرغبة في التميُّز والندية، مرتبط بكل قُطر على حدة.
واحدة من هذه الأفكار المندرجة بشكل واضح ضمن مشهد إثبات الذات والندية، هي السجال القديم الجديد حول جناح الوطن العربي الأكثر إتقانا وإجادة للغة العربية الفصحى قواعدَ ونطقاً وإسهاماً.
ففي الوقت الذي ينظر فيه المشرق العربي إلى نفسه كأصل ومركز الثقافة واللغة العربية، وهي مسألة صحيحة تاريخيّاً وجغرافيّاً بكل الأحوال، فإن المشكلة المثيرة للجدل هي حينما تُعامَل البلدان المغاربية كتقليد للمشرق، كما لو لم تكن سوى صدى ثقافي ومستهلِك.
هذه الرؤية يعتبرها معظم شعوب شمال إفريقيا مخالفة للحقيقة التاريخية والواقع الراهن، فلإن كان من الصحيح أن المشرق لا يفهم لهجات المغرب، رغم أنها مشتقة من العربية أساساً، فإن أهل المغرب في علاقتهم مع لسان العرب، خلال التاريخ السابق كما الحاضر الجاري، يعتبرون أنهم يحملون مشعل الثقافة واللغة العربية إجادة وإسهاماً وابتكاراً، ربما على نحو يتجاوز المشرق العربي.
شواهد تاريخية
يحتاج الحديث الدقيق عن اللغة العربية في أقطار البلدان المغاربية، وحجم وقوة إسهامات شعوب المغرب على مستوى الثقافة العربية بصفة عامة، إلى العودة إلى أحداث التاريخ وحقائقه الثابتة المتصلة بالموضوع، باعتبارها شواهد تاريخية على مكانة العربية في الجناح المغربي للعالَم العربي.
من هذه الشواهد التاريخية، حسب الأستاذ المغربي أحمد حميد المتخصص في اللغة العربية، أعداد الأعلام المغاربية التي أضافت إلى حقل دراسات اللغة العربية أشياء كثيرة منذ القرن الهجري الخامس.
“خلال القرون الخامس والسادس والسابع للهجرة تَحوَّل ثقل الدراسات اللغوية، النحوية منها على الخصوص، إلى حواضر الغرب الإسلامي، أي شمال إفريقيا والأندلس، مع أمثال الأعلم الشنتمري الأندلسي، وابن مضاء الإشبيلي المنشأ المراكشي الإقامة، وأبي موسى الجزولي من سوس، وابن آجروم الصنهاجي الفاسي، وابن أبي مالك الأندلسي النشأة المشرقي الإقامة، وابن أبي الربيع السبتي، وابن زكري المغراوي التلمساني، وابن غازي المكناسي…”، يقول أحمد حميد.
ويؤكّد الأستاذ بمركز مهن التربية والتكوين بالعاصمة المغربية الرباط وبالمعهد العالي للإعلام والاتصال، أن علوم العربية مشرقية النشأة والتأسيس والتدوين والتصنيف خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة، مستعرضاً أسماء أعلام هامة من المشرق قدَّمَت للغة العربية وقعَّدَت لها، ويذكر كأمثلةٍ كلّاً من الفراهيدي وسيبويه والكسائي وأبي زكريا الفَرَّاء وأبي الفتح ابن جني وأبي علي الفارسي وأبي العباس ثعلب…
من جهته يرى الشاعر والصحفي المصري محمود عبد الرزاق جمعة، في تصريح ، أن الصراع على اعتلاء قمة الأفضلية اللغوية في العالَم العربي فيه ارتفاعات وانخفاضات متعددة على مرّ التاريخ، والأمر ليس مرتبطاً بالنحو والبلاغة فقط، بل يتعدى ذلك إلى المدارس الإملائية، معتبراً أن المدرسة المصرية لها ما لها وعليها ما عليها، ومثلها الشامية والمغربية.
الأصل والتقليد
صراع الأصل والتقليد بين المشرق والمغرب، أو بين المركز والهوامش كما يُظَنّ أحياناً، لم ينشأ حديثاً في سياق التحوُّلات السياسية التي عرفتها المنطقة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، بل يرجع قديماً إلى الوراء، على غرار الحال لما استقبل الصاحب بن عباد خلال القرن الرابع الهجري كتاب ابن عبد ربه “العقد الفريد” الصادر بالأندلس آنذاك بالقول المستخِفّ: “هذه بضاعتنا رُدّت إلينا”.
وعلى الرغم من أن النظرة إلى المغرب كصدى ثقافي للمشرق مستمرة إلى حدود اللحظة بشكل متفاوت، وفق مجموعة من المتتبعين، فإن جُلّ المغاربة يعتبرون أن تلقِّي البلدان المغاربية للإنتاجات المشرقية الحديثة والمعاصرة ينبغي أن يُفهَم أساساً كدليل على انفتاح المغرب بوصفه ملتقىً يستوعب داخله روافد مختلفة عربية وأمازيغية وأوروبية وإفريقية على السواء.
“في جميع الأحوال، يُوجَد أيضاً إنتاج مغاربي باللغة العربية لا يمكن الاستهانة به، من ابن خلدون حتى نصل إلى عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري. فإذا كان المشارقة يبدعون في مجال القصة وفي مجال الرواية والشعر، فإن المغاربة بصفة عامة أبدعوا كثيراً في مجال الفكر والفلسفة والتاريخ والتأريخ”، يشدد الصحفي السوداني المقيم في المغرب طلحة جبريل.
وفي نفس خط جدلية الأصل والتقليد، يوضِّح أنس الشعرة الباحث من المغرب في الفلسفة والآداب أن هذه مسألة مرتبطة بإشكالية الأصل والفرع، معتبراً أنها ليست مسألة ذات جدوى، لا سيما في هذه القضايا، إذ لا يمكن أبداً إثبات أصل أو فرع ثقافة ما، ومن يحاول ذلك، على حد تعبيره، فهو في الغالب ينزاح عن المعايير العلمية، نظراً إلى أن الثابت والمتغير “ليس لهما بالأساس أرض ثابتة حتى يضع أحد حدّاً فاصلاً بين الأصل والفرع”.
ويضيف: “في السياق الحالي يجب أن تحدَّد التبعية قياساً إلى مستويات التمدن، والتطور التكنولوجي، والديموقراطية، وحقوق الإنسان… ولا يبدو أن الشرق أفضل حالاً في هذه المستويات من الدول الأوربية وأمريكا، لذا ففي تقديري أن التبعية غير مطروحة لنا، على الأقلّ كمغاربة، فما يجمعني بالأوربي الإسباني أو الفرنسي أكثر وأكبر -تاريخيا وثقافيّاً وراهنيّاً- مِما يجمعني بالمشارقة وثقافة المشرق عموماً”.
عربية المغرب
يظنّ مغاربة كثر أنهم أكثر إجادة وإتقاناً للغة العربية من نظرائهم المشارقة، مدفوعين في ذلك بأسباب شتى، في مقدمتها التركيبة الذهنية والثقافية المغاربية التي، حسب قولهم، تسمح بإمكانية التعلم السهل للغات العالَمية المختلفة قواعدَ ونطقاً، على عكس الحال مع عديد من المشارقة، خصوصاً على مستوى النطق.
في هذا الإطار يعتقد الصحفي السوداني المقيم بالمغرب طلحة جبريل، أن المغاربة يجيدون النحو والإعراب وقواعد اللغة العربية أكثر مِمَّا يجيدون التعبير أو الحديث أو التواصل بالفصحى.
أما القدرة على تعلُّم اللغات الأجنبية، فيرى المتحدث ذاته أنها صحيحة تماماً، فالمغاربة لديهم قابلية لاستيعاب اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية، معتبراً أنه لمس ذلك بنفسه سواء على مستوى الجامعات أو على مستوى المجتمع والإدارات.
من جانبه، يُبرِز محمود عبد الرزاق أن العامل الجغرافي لعب دوراً أساسيّاً على مستوى القرب من أو الابتعاد عن اللغة العربية، فلإن كانت بلدان المغرب العربي بعيدةً جغرافيّاً عن مراكز اللغة العربية الأصلية، كبغداد ومكة وصنعاء، ومراكز تعليمها ونشرها كالقاهرة ودمشق، فإن ذلك جعل أهل المغرب أقلّ قرباً من اللغة الفصحى، خصوصاً مع ارتباط المغرب العربي بلغات قديمة كالأمازيغية، على حد تعبيره.
في المقابل يعود أنس الشعرة في حديثه على تجربته الدراسية بالمشرق العربي، مشيراً إلى أن متابعته للدراسة بدولة قطر سمحت له بتَعرُّف طبيعة اللهجات التي تنطق بها الشعوب العربية، مِما جعله يقف على حدود صحة معطى تَمكُّن المشارقة من اللغة الفصحى.
“يمكنني القول إنه ليس للمشارقة تفوُّق واضح في هذا الباب، لا سيما أن الجانب التواصلي يظلّ مرتهَناً باللهجات المحلية، التي تظلّ مستحكمة في طريقة التواصل، وعليه فإن مسألة التفوق هذه هي حالات فردية فقط، لا يعكسها واقع البحث العلمي” يردف المتحدث.
ويشير الأستاذ أحمد حميد إلى أن إجادة المغاربة للغة العربية مقارنة بإخوانهم المشارقة، وفق قوله، مسألة فيها نظر، باعتبار أنه لا شيء يثبتها أو ينفيها علميّاً، مذكّراً بأن كون البيان مخصوصاً بقوم مقصوراً عليهم “فكرة قال بها الجاحظ قديماً في تفضيل العرب على العجم بتأثير من العصبية العرقية”.
أهمِّية الدين
إذا كان الجميع على علم بالخصوصيات الثقافية في جغرافيات البلدان المغاربية، المرتبطة أساساً باختلاف الروافد الثقافية من قبيل الأمازيغية والأندلسية والأوروبية والإفريقية، فإن تشبُّث شعوب المنطقة المغاربية باللغة العربية متصل على نحو وثيق بتعلُّق وحرص المغرب عموماً على الإسلام وتراثه.
“الحقيقة أن آصرة الدين لدى المغاربة أقوى من غيرها، ولعل إحساسهم المتواصل بالمسؤولية في حماية ثغور الغرب الإسلامي من الخطر المسيحي بعد سقوط الأندلس، هو ما حفزهم على التشبث باللغة العربية والحرص على إتقانها وإجادتها، وصيانة تراثها اللغوي والأدبي”، يصرح الأستاذ أحمد حميد المتخصص في اللغة العربية.
وسواء كان إتقان وإجادة اللغة العربية تميل كفَّته نحو المغاربة أو نحو المشارقة، فيبقى ازدهار لغتنا العربية رهيناً ليس بمدح فخامتها وقوتها من طرف ذلك المشرقي أو ذاك المغربي، بل يمرّ ذلك عبر كتابة جملة عالية بها، بجعلها مركباً لفكرة جميلة، بالكلام العذب والخيال الصقيل، وبما نقوله بها لا بما نقوله عنها.