ما هو ذلك الشك الذي يقود إلى اليقين والاطمئنان؟
في تحليل هذا الموضوع؛ ننطلق من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ؛ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ. قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن!؟ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.» «الإلحاد» أو الشك الإبراهيمي؛ هو ذلك الشك الذي قاده إلى اليقين والاطمئنان. الإنسان المُلحد؛ يكون غالبًا أقرب الناس إلى الإيمان؛ لأنه ينطلق من الشك والحيرة ومنهج طرح السؤال؛ ليصل إلى الحقيقة واليقين في يوم ما. أمّا الإنسان المؤمن؛ فإذا ارتد؛ فقد يصير أقرب إلى الكفر والشرك البَوَاح…! -والعياذ بالله-
وهذا ما نُلاحظه في عصرنا الحالي؛ حيث نجد بعض من كان يتسابق ليقدم الموعظة في المسجد؛ ويستدل بآيات قرآنية يقلبها حسب مصلحته وهواه؛ ليثبت للناس فوائد العسل؛ (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ.) -حينها كان هدفه الترويج لتجارة العسل الحر في المعشبات؛ لم يتساءل بأية لغة خاطب الله عز وجل النمل؛ هل باللغة الصينية أم العبرية؟ – دون ملاحظة التناقظ الذي سقط فيه؛ وقد أصبح يشكك في الآيات القرآنية، وفي الحديث الشريف وإنكار السنة؛ وينفي الوُجود الفعلي للجنة والنار؛ والإسراء والمعراج… وغيرها من المسائل الفقهية؛ دون تمييز بين القَطْعِيَّات من الظَنِّيات؛ وإدخال الناس في جدال “لا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ”؛ ويخوض في هذه المسائل والمقاصد الفقهية والشرعية؛ دون امتلاك أبسط أبجديات مقوماتها؛ فبالأحرى الغوص والفتوى فيها…!
بل ويتمادون في جدال عقيم؛ ومقيت؛ بأسلوب خشن ومزعج ومربك للعقل البشري؛ فيه الكثير من التكرار والحشو والإطناب والاستفزاز؛ والأسلوب المبتذل؛ والعشوائي والمرتجل؛ والاندفاع العاطفي؛ دون استخدام العقل.
أحيانًا؛ يكون مسلسل ومسار بعض المجتمعات والشعوب والأمم؛ يأخذ ويشق سبيله الصحيح في الحضارة؛ حتى يُبْتَلى الناس في يوم من الأيام؛ بشخص ما؛ يربك تفكيرهم؛ ويزعجهم وينغص عليهم عيشتهم ويشوش عليهم؛ ويشتت تركيزهم؛ ويصرفهم عن التَّفَكُّر في أهم قضاياهم المصيرية.
وهم بهذا النمط من التفكير؛ يصرفون الشعوب عن التفكير في أهم قضاياها؛ ويشتتون لمَّ شملهم وانتباههم في حل مشاكلهم وأزماتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية؛ الحقيقية والواقعية.
فلا الدعوة بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ؛ ولا؛ (جَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.) تجدي معهم في شيء؛ فالنقاش والحوار معهم يقود إلى عنوانٍ آخر؛ هو: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.) وبالتالي؛ خير تعامل مع أمثال هؤلاء؛ هو التجاهل؛ والزمان كفيل لوحده لإثبات أو نفي مدى صحة أفكارهم ومزاعمهم.
المهم؛ إذا جمعتك الظروف في حوار أو نقاش أو جدال؛ كيفما كان؛ مع هذا النوع من البشر؛ فلا تضيع الوقت في محاولة إقناعه بتناقض منطقه؛ إذا كنت حريصاً على استدامة العلاقة؛ لأنه عاجز عن تجاوز أسوار الأيديولوجيا الكثيفة التي يؤمن بها. فهي حين تطبق على الفرد تُفقده في الغالب الموضوعية.
من الأحسن الابتعاد، وتجنب الحوار مع حاقد؛ خاصة المشبع بالفكر الماكر والمخادع. تفادى الصدام واخرج بأقل الأضرار؛ قبل أن تصل معه إلى (أعرض عن الجاهلين). لأن هذا النوع من البشر؛ لا يليق أن تضيع الوقت معه في محاولة إقناعه بتناقض أفكاره؛ فهو يعاني من العجز المتعدد الأبعاد؛ وغير قادر على تجاوز أسوار الأفكار الضيقة والرؤية والزاوية الأيديولوجية التي يرى منها وينظر منها للقضايا؛ حيث تُفقده في الغالب درجة من الموضوعية.
– وفي الإعْراضُ والتجاهلُ؛ وردت عدة آيات قرآنية:
أحيانًا الإعْراضُ والتجاهلُ والنَّأْيُ والتغافلُ؛ يكون أَشَدُّ وقعًا على أصحاب الدسائس والمؤامرات؛ والْجَاهِلِينَ والْمُشْرِكِينَ؛ والخائضينَ والمُبَيِّتينَ والمضمرين الشر والسوء؛ والماكرين والمخادعين؛ والتافهينَ والمعاندينَ؛ هؤلاء؛ «خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ. وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم.» وقد أشار ربنا تبارك وتعالى إلى ذلك صراحة أو ضِمنيًا في عدة آيات وسور:
• «وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ.»
• «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا.»
• يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا؛ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ. وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ.»
• ولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا.»
• «وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ؛ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا.»
• وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.»
• «أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.»
والخلاصة:
ابتعد عن الصدام مع حامل هذه الأفكار؛ «وغَيِّر الموضوع؛ واخرج بأقل الأضرار؛ فالوقت والعلاقات الإنسانية أحياناً أهم من كسب المواقف؛ والزمن أحياناً جزء من العلاج.» كما عبر عن ذلك المفكر العربي القطري الدكتور جاسم سلطان.
حينما يصل الحوار مع شخص ما؛ إلى مستوى اعتبار نفسه أنه الوحيد من يمتلك الطبعة الأصلية للحقيقة؛ ويمتلك مفاتيح أسرار الكون؛ ويعتبرك أنت تتوفر على النسخة المزيفة فقط؛ وتكتشف أنك دخلت معه في متاهات العبث في المحاجة؛ تذكر قوله تبارك وتعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.» تجاهل وتغافل؛ فأعرض؛ ثم انسحب.